بعد بيان الجبير بخصوص العراق .. صفقة سعودية وشيكة في اليمن ضحيتها حلفاء من الوزن الثقيل
يمنات
صلاح السقلدي
“إننا في المملكة العربية السعودية نهنئ العراق الشقيق بالانتصارات المحققة على العصابات الإرهابية”، في المعارك الجارية لاستعادة مدينة الموصل من أيدي مسلحي التنظيم، و “سنعمل على المساهمة في إعادة الإستقرار إلى المناطق المحررة من أيدي هذه العصابات الإرهابية”.
تلك فقرة من بيان لوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أثناء زيارته للعراق يوم السبت الماضي. الزيارة التي عدّها كثير من المراقبين مفاجئة من قبل الدبلوماسية السعودية وغير متوقعة في هذا الوقت على الأقل، ومحاولة سعودية لترميم ما لحق بسياسة المملكة الطائشة من خسائر وتشوهات في السنوات الماضية، جعلتها تبدو بمعزل عن محيطها العربي والاسلامي، ومتورطة عسكرياً، سياسياً، وطائفياً في المنطقة والعالم، جرّاء تدخلاتها المباشرة عسكرياً وسياسياً واستخباراتياً في أكثر من دولة، وعلى وجه الخصوص في اليمن وسوريا ومصر، وقبلها العراق، ناهيك عما لحق بسمعتها الخارجية من سوء، وبالذات لدى حلفائها (أمريكا وفرنسا على سبيل المثال) الذين يرون فيها دولة منتجة ومصدّرة للتطرف.
البيان الذي أصدرته الخارجية السعودية غداة الزيارة يبدو بياناً تصالحياً إلى أبعد الحدود مع دولة عربية تمثل غاية في الأهمية للمملكة، بعد سنوات من الحرب الإعلامية والسياسية والطائفية بينهما منذ احتلال الأمريكي للعراق. فالعراق ذو الأغلبية الشيعية ظل في نظر المؤسستين السياسية والدينية السعودية المتشددة “دولة مجوسية رافضية”، و”أرضاً محتلة” من قبل إيران، وتشكل “خطراً مباشراً على المملكة وعلى أهل السنة عموماً، وجبت قطيعته ومحاربته. فبالقدر الذي مثلت لهجة هذا البيان جنوحاً سعودياً نحو المصالحة مع العراق، فهي مؤشر إلى رغبة سعودية في تلطيف العلاقة مع إيران ذاتها، خصوصاً بعد أسابيع من تحركات نشطة للدبلوماسية الخليجية – كويتية وعُمانية – بهذا الشأن، قابلتها زيارات إيرانية لمسقط والكويت.
ما يهمنا في مقاربتنا هذه هو التعريج على التعاطي السعودي في اليمن. ففي الوقت الذي تشن فيه السعودية، وبالتعاون مع عدد من الدول ضمن حلف عربي حرباً شاملة (عاصفة الحزم) في هذا البلد، أو ما توصف بحرب إعادة شرعية الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، ومحاربة “الوجود الإيراني الشيعي” في اليمن، والذي تقول السعودية إنه يشكل “خطراً داهماً” عليها، بل على الحرمين بذاتهما، نراها، وهي التي تقف على رأس هذا التحالف في اليمن، تسعى إلى مصالحة سياسية مع أكبر دولة عربية شيعية (العراق) على تخوم حدودها الشمالية، لإيران نفوذ سياسي وعسكري وفكري فيها لا شك بوجوده، في مفارقة غريبة، بل قل هي غريبة فقط على من يأخذ الخطاب الديني والسعودي على محمل الصدق والجد.
وهذا المعيار السعودي المزدوج بين اليمن والعراق، يفنّد المزاعم التي تتحدث عن أن الصراع السعودي الإيراني في المنطقة هو صراع طائفي ومذهبي بين شيعة وسنة، كما تصوره وسائل الإعلام المتطرفة داخل الدوائر السياسية والدينية المختلفة. فإن كان الصراع على هذا النحو، ولو كان أمن المملكة مهدداً فعلاً من الشيعة، لكانت السعودية شنت عاصفة حزمها على العراق، كون شيعة العراق أكثر عدداً وأكثر تمسكاً ومحافظة على الفكر الشيعي، وليس على اليمن، الذي فيه حركة زيدية معتدلة مقارنة مع باقي الفرق الأخرى. فلم تر المملكة السعودية في هذه الحركة خطراً عليها عبر عشرات السنين، وما زلنا نتذكر كيف وقفت السعودية بكل قوتها لإعادة سلطة الإمامة إلى سدة الحكم في صنعاء بعد سقوطها عام 1962م. هذا فضلاً عن أن الوجود الإيراني حاضر فعلياً في العراق، بعكس ما هو في اليمن من افتراض. ولكن لأن المملكة في قرارة نفوس ساستها تدرك أن الصراع بطبيعته صراع سياسي مهما حاولت الدوائر المتشددة تصويره على أنه صراع طائفي، فقد أتت هذه الخطوة (زيارة الجبير لبغداد) لتؤكد ذلك، وتتماشى مع الهدف السياسي والمرجو. فلم يكن الدين في أي فترة من فترات حكم هذه الأنظمة إلا وسيلة مغلفة للوصول لأغراض سياسية صرفة.
وبالتالي، نهمس في مسامع كل يمني وكل جنوبي تحديداً، ممن انجرفوا في تصوير الخلاف بين الجنوب والشمال على أنه صراع مذهبي، فنقول لهم: إن المملكة العربية السعودية، وإنفاذاً لسياستها في اليمن التي تبنى على مرتكز واحد وهو المصلحة العليا للمملكة، مستعدة لأن تضحي بحلفائها السياسيين والعسكريين، والجماعات التي تقاتل معها، وبالذات الجماعات التي تحارب معها لنزعة طائفية، في أي لحظة. فهذا العراق الذي طالما قالت عنه الدوائر السعودية السياسية والدينية ما لم يقله مالك في الخمر، لم تعد دولة مجوسية ولا دولة محتلة من أحد، بمجرد أن وطئت أقدام الجبير مطار بغداد الدولي. فالعراق الذي تنظر إليه الدوائر السعودية ومؤسساتها المتشددة على أنه “معقل المجوسية”، و”بلاد البدع والشرك”، و”أرض المزارات وحاضنة التشيع”، أضحى بين عشية وضحاها موطن الأشقاء والأخوة والمحبة. وقوات “الحشد الشعبي” العراقي الذي دأبت المؤسسات الإعلامية والسياسية والدينية السعودية على نعتها بالعصابات الطائفية التي تحارب أهل السنة والجماعة، لم يرد لها أي ذكر في بيان الجبير، بل إن البيان صب جام غضبه على الجماعات المعادية لقوات “الحشد الشعبي” (داعش والقاعدة والنصرة وغيرها)، التي هي في الأصل سنية المذهب، وتقاتلها الحكومة العراقية بقيادة العبادي والجعفري وجيشها، وتوعد البيان بمحاربتها جبناً إلى جنب مع القوات العراقية و”الحشد الشعبي” والحكومة العراقيتين، وهي الجماعات التي يرى فيها كثير من رموز المؤسسة الدينية السعودية الموالية للحكم في الرياض، جماعات “مجاهدة”، تتصدى لـ”المجوسية والصفوية الرافضية، عملاء إيران”.
لا أعتقد أنه يفصلنا وقت طويل عن التغيير المرتقب للموقف السعودي في اليمن. فكل المؤشرات تشير إلى أن ثمة صفقة (تسوية) سياسية دولية وإقليمية وشيكة في الشأن اليمني تقودها السعودية، سيكون أكباشَ فدائها كثُر من حلفاء السعودية في اليمن من الوزن الثقيل، وعلى رأس تلك الأكباش سيكون الحراك الجنوبي والقضية الجنوبية برمتها، باعتبارهما الجدار الأقصر الذي “سينط” من فوقه الجميع، بسبب حالة الإنبطاح المهينة التي اتبعتها بعض النخب الجنوبية، وهي تتعاطى بدونية مخجلة مع شركائها المفترضين، والسعودية في طليعتهم. وقد بدا ذلك جلياً في تهيئة أرضية سياسية خصبة لهذا السيناريو، من خلال الحملة الإعلامية الشرسة التي طفقت في القيام بها وسائل الإعلام السعودية في الداخل والخارج بوجه الحراك الجنوبي، عبر تحاليل سياسية وتقارير إخبارية ومقالات صحافية لعدد من الكتاب السعوديين والعرب الموالين لها، في عدد من وسائل الإعلام السعودية والعربية في الخليج وأوروبا، والمقربة من دوائر صنع القرار السعودي، حملت جميعها بشدة على الحراك الجنوبي، ووصفته بصفات معيبة ليس أقلها “الحراك الإنفصالي المريض”.
فهل بعد كل هذه المؤشرات وغيرها من الشواهد، سيعيد الجنوب وثورته ونخبه تقييم مواقفهم ومراجعة سياساتهم الممنوحة للآخرين كشيك على ورق بياض، ويدركون كم كانوا مخطئين بدخولهم في تحالفات غير منصفة وبدون رؤية واضحة، مع شركاء مفترضين يمضون اليوم في ترتيبات سياسية قادمة بمعزل تام عن الشريك الجنوبي الداخل في الخسائر، والخارج من المكاسب؟
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا